2/ أنشطة التطبيق والإنتاج

نموذج تطبيقي

يزخر الشعر العربي بنماذج شعرية بديعة تتغنى بالقيم الإنسانية؛ التي تجعل الإنسان محور اهتمامها، وخير مثال على ذلك، ما نجده في النموذجين قيد التحليل، واللذان يمثلان قيمة الجمال خير تمثيل. القصيدة الأولى من ديوان "صلوات في هيكل الحب" للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، أما القصيدة الثانية فهي من إبداع شاعرنا العراقي بدر شاكر السياب بعنوان "أفياء جيكور". فأين يكمن إذن وجه الاختلاف والتمايز بين القصيدتين؟ وما هي نقط التشابه والائتلاف بينهما؟

يعبر الشاعر أبو القاسم في قصيدته عن مشاعر الحب والإعجاب بمحبوبته متغزلا بجمالها، حيث يبدو جليا من المعجم اللغوي الذي وظفه لبناء المعنى داخل القصيدة، أنه كان مركزا على قيمة الجمال باعتبارها قيمة إنسانية راقية، وقد اغترف ألفاظه من حقلين دلاليين بارزين، وهما: حقل الجمال في قوله: رسم جميل، عبقري، جمال مقدس، رائعات الورود...) وحقل الحب المتمثل في قوله: (أبصرتك عيناي، تمشين، خفق القلب....) في إطار علاقة تكامل وترابط تجمع بين الحقلين. أما من حيث الجانب البلاغي فقد بدا واضحا أن الشاعر كان مفتنا في انتقاء صوره البلاغية والشعرية من تشبيه واستعارة ومجاز بعناية ليتناسب ذلك مع طبيعة الموضوع، وينسجم مع مشاعر الحب التي تتدفق بقوة من ثنايا القصيدة. يتجلى التشبيه في قوله: خطو موقع كالنشيد...، وتبرز الاستعارة في قوله: تراءى الجمال يرقص، حقل عمري...ومن حيث البناء اعتمد الشاعر التونسي على نظام البيت الشعري الذي يقوم أساسا على الشطرين المتناظرين (الصدر والعجز) بروي موحد وقافية موحدة أيضا.

في حين عبرت القصيدة الثانية عن مشاعر الإعجاب التي يكنها الشاعر بدر شاكر السياب لبلدته، إنها الموطن الأصيل والأصلي الذي ترعرع داخله، وقضى فيه أجمل أيام طفولته. يمتزج ذلك كله بشعوره بالانتماء الذي يتعطر بنكهة الجمال، فقد اتخذ لقصيدته موضوعا أساسا يقوم على وصف قريته جيكور، مركزا على جمالها، ومتوسلا في ذلك بحقلين دلاليين: الجمال والطبيعة، وموظفا لغة إيحائية ومجازية تقوم على التشبيه في قوله: يا جدولا من نور/ ظل كأهداب طفل/ نافورة ماؤها ضوء القمر...، وعلى الاستعارة في قوله: في شاطئ نام فيه الماء/ ارتعاش الحلم...). وعلى خلاف القصيدة الأولى نظم بدر شاكر السياب قصيدته على نظام السطر الشعري الذي يكسر فيه الشاعر كل قواعد القصيدة العمودية، فينوع في حرفه الأخير من أسطره الشعرية، حيث تتوزع الأسطر  على جسد القصيدة حسب الدفقة الشعورية، ضاربا عرض الحائط كل القيود والقواعد التي تلزم الشاعر العربي القديم بالانضباط لها.

لقد بدا واضحا من خلال المقارنة التي أقيمت بين القصيدتين، من حيث المضمون والشكل، أن تجربة الشاعرين تختلفان، فالأول تونسي اطلع على عيون الأدب العربي، وتأثر بالحركة الرومانسية التي كان واحدا من أقطابها، كما نشأ في بيت ميسور وعائلة مثقفة، بخلاف الثاني الذي تأثر الإبداع عنده بانفتاحه على الثقافات الغربية والأساطير إلى جانب اطلاعه على الثقافة العربية، ومن الناحية التاريخية فقد شهد الكثير من النكبات والنكسات، ما دفعه إلى تبني شكلا جديدا من القصيدة متحررا من كل القيود التقليدية، وعلى عكس أبي القاسم الشابي فبدر شاكر السياب عاش حياة مليئة بالاضطرابات النفسية والفقر والمعاناة.

خلاصة القول، فالقصيدتين موضوع الدراسة اتفقتا في عمق الرؤية الجمالية، وتوظيف الإيحاءات البلاغية الحسية المتمثلة في التشبيه والاستعارة، لكنهما اختلفتا في المضمون الذي تناولاه لقصيدتيهما، وفي البناء الذي عكس شخصية كل شاعر على حدة وتجربته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

درس: كيفية الرحيل وضروب الأهبة وكيفية النزول

درس: حكاية السندباد في وادي الحيات

ذريني ونفسي شرح قصيدة للشاعر عروة بن الورد (الجزء الأول)